وجه الغوريلا .......... للأديب / محمد شعبان
يوما جميلا كان ، ذلك اليوم الذي خرجتُ فيه في ساعةٍ صباحية ساكنة خالية من الضجيج والزحام ورائحة عوادم السيارت الخانقة ، لم يزل النهار ضبابيًّا والشوارع نائمة إلا من مطعم ( العربي ) للفول .. رائحة الزبد تغوي جهازي الهضمي الذي ما عاد يحتمل امتصاص الفول .. ( القاولون ) أجاركم الله .. ( مقهى المديرية ) مفتوح ويستقبل بعض المحامين الصغار وكُتَّابَ بعض المحامين الكبار الذين ينتظرون عملاءهم ريثما يحضر الموظفون ووكلاء النيابة والقضاة لتبدأ المعامع القضائية ، فتُنظر القضايا ويُجْلبُ المتهمون من السجن الذين حكم على بعضهم ، و مازال بعضهم رهن التحقيق .. أخذت أجول في المكان الذي لا تراه خاليًا من البشر والزحام إلا في مثل هذه الساعة من النهار ، أحببت أن أملِّي عينيّ منه ، فقلما أراه بهذا الجمال والهدوء والنظام ، المَحَال مغلقة والسيارات متراصة بمحاذاة الرصيف صفًّا واحدا ، ولا تجد هذا المشهد الحضاري الجميل وسطَ النهار أبدا خاصة في ساعة الذروة عندما تجد الصف والصفين والثلاثة ، وشرطي المرور واقع في حيص بيص ويحتاج بدل دفتر المخالفات دفترين وأكثر ، وسيارة جَرِّ السيارات المخالفة لا يتوقف بوقها المزعج ...
لفتَ نظري ـ وأنا أعيش تلك اللحظة الرائعة ـ هذا الريفيَّ البسيط الذي يسأل ناذل المقهى ـ أثناء مروري ـ عن مبنى مصلحة الأوقاف والناذل يشير إليه قائلا :ـ انظر ـ يا حاج ـ إنه قريب جدا من هنا فقط ادخل ( أأ ) .... قاطعتُه بإشارة بيدي أَنْ دَعْهُ ، ثم أشرتُ للريفي البسيط أَنْ تَقَدّم قائلا له : تعال ـ يا حاج ـ سأوصلك في طريقي .. وكأن الرجل لقي ( لقية ) فورا هُرِعَ إليّ داعيًا :ـ ربنا يحميك ـ يا أستاذ ـ ولا يحرمك من نور عينيك .. انطلقتُ أمامه حتى أدركني وسار بحذوي .. ثوانٍ من الصمت مرت علينا في ظل هذا الهدوء النادر في مدينتي الصاخبة ، ثم طفق الريفي يتحدث عن سبب مجيئه ، وأنه في طريقه لمصلحة الأوقاف قسم الأراضي الزراعية ، وأنا لم أزد عن قولي :ـ أعانك الله ـ يا عم الحاج ـ ، لكنه أردف قائلا :ـ إخوتي المتعلمون أصحاب الشهادات العليا الذين حرَمْتُ نفسي لكي يُتِمُّوا تعليمهم ويرتقوا لأعلى المناصب أخذوا مني الأرض ، وزوروا كل الأوراق بأسمائهم وحرموني من كل شيء واستغلوا أميتي وجهلي وصمتي وطيبتي ولم أَفِقْ إلا وكل واحد منهم في بيت يغلقه عليه هو وزوجه وعياله ، وأنا لا شيء باسمي ولا حق لي ولا لأولادي ، كنتُ أحمل ( المَشنّه ) محمَّلة بكل ما لذ وطاب من الطعام ، فطائر وخبز وبط وحمام وغيره ، غيرَ النقود طبعا ، وأذهب لهذا في جامعة الإسكندرية وذاك في جامعة القاهرة وأجلس أنا في القرية محرومًا أَطْعَمُ ( المش أبو دوده ) والخبز المقدد وأغتسل بلهيب الشمس وطين الحقل ... وصلنا إلى مبنى الأوقاف وقبيل البوابة بخمسة أمتار أشرت للريفي البسيط إلى البوابة وقلت له :ـ هذا هو ـ يا عم الحاج ـ ، ادخل من هذه البوابة .. ثم انحرفت ناحية اليمين لآخذ الشارع المقابلَ لمبنى الأوقاف ، وعيناي على الرجل لم تبرَحْهُ .. غريبة!! الرجل اجتاز المبنى .. الرجل نظر إلى البوابة ولم يدخل .. الرجل أخذ طريقه ملتفا حول المبنى وعينه معلقة به وكأنه ( أَأَأَ ) ، لا أدري ، لكن إلى أين يذهب هذا الرجل ؟! ألا يريد مصلحة الأوقاف ؟!، التفتُّ مسرعًا خلفَه ، كدتُ أسقط على وجهي وتصدمني سيارة عندما التفتُّ فجأةً وقطعت الطريق لألحق به ، لكن ، وفي لحظةِ تحاورٍ بيني وبين عقلي الباطن لعنتُه ولعنتُ جهله وأميَّته التي لا أدري ما سببهما ربما لأسباب خارجة عن إرادته ، لكنني لم أجد في نفسي تجاهه غير كرهٍ واشمئزاز لا إشفاق فيهما على مَنْ ترك نفسه لقمةً سائغة للجهل والأمية وإخوةٍ ناكرين للجَمِيل ، ولم يحذر غدرَ الزمان وأهلَه ، ضيَّقتُ ما بين الخُطَوات .. أبطأتُ .. توقفتُ تمامًا ، بينما هو آخذٌ طريقه إلى حيث لا أدري ولا يدري .. اذهب أيها الغبي إلى حيث المجهول .. أكْمِلْ أيها الجاهل طريقك نحو الضياع ... قَعْ أيها الأمّيُّ فريسة ً سهلة بين براثن الأطماع وموت الضمائر ... اذهب غير مأسوف عليك ولا على أمثالك ... لماذا تبحث الآن عن حقك الذي أخذَتِ السنون تأكله أمام عينيك ؟! ، لماذا تطالب به الآن وهو إن لم يستول عليه إخوتك الأشقاء كان سيستولي عليه غيرهم وغيرهم كُثْرُ ، وهذا أفضل السيئين وأخفُّ الضررين .. اذهبْ ، غُرْ ، اخْسَأ ، ثم التفتُّ مسرعا لأستلم طريقي ، فلقد كان ورائي أمور كثيرة لأنجزها ، أهمها ابنتي في المدرسة وينبغي أن أذهب لأدفع لها المصروفات ، ونظرا لانشغالي الأيام الفائتة نسيت أن أمر عليهم لدفع المصروفات ، المُشرفةُ المسؤولة قد أوقفتها في فناء المدرسة وأخبرتها بضرورة حضور ولي الأمر لدفع المصروفات ، وكان ذلك أمام زميلاتها مما سبب لها حرجا .. كان ليَصعُبَ عليكم سماعها وهي تحكي لي عن ذلك الموقف باكيةً يخنقها النشيج ، وكيف أنه أثر بها أمام زميلاتها اللاتي أخبرنْها بأن آباءهن قد حضروا ودفعوا المصروفات قبل أبيك ، وكل واحدة تنظر لها نظرة دونية لئيمةً حقيرة تنبئ عن أصل كل واحدة منهن الذي أعرفه تمام المعرفة ، فآباؤهن جميعا عملاء عندي وأعرف عن كل واحد منهم أكثر مما يعرفه عن نفسه ، واحدة منهن فقط هي من أشفقت عليها من كلامهن الحاد فأخذتْها وابتعدتا عنهن ... وبمنتصف الشارع وقفتُ بتفكيري برهةً ذهبت خلالها بخيالي نحو جانب من مستقبل مظلم كئيب ، لم أر فيه ابنتي إلا وهي تقف أمامي عبدةً أسيرةً لزوج قاسٍ طماع ذي حنجرة حمارية ووجه ( الغوريلا ) يجذبانني من يديَّ الهرمتين وأنا مستند بوهني وضعفي على ذلك الحامل الحديدي الحقيرذي القوائم الأربعة خاصّةِ العجزةِ والمُقْعدين يطردانني من شقتي عُنْوةً ليستوليا عليها ويرمياني في دار المسنين العفنة التي أزورها بين الفَينة والأخرى لمساعدة المحتاجين فيها بما تيسر .. نبَضَ قلبي بسرعة عشرين حصانا ، وكاد يقفز من بين جوانحي ، وارتفع ضغط الدم في دماغي ، وشعرت بحرارة تشتعل في كل جسدي ، عدت أدراجي أقتفي أثر ذلك الريفي البسيط وسَّعت ما بين خطواتي لألحق به .. أسرعت .. جريت .. شعرت بخفتي ونشاطي التي لا أعتادهما إلا وأنا أمارس رياضة الجري الصباحية عقب صلاة الفجر بملابسي الرياضية ، تلك الرغبة في اللحاق بهذا المسكين ، ومساعدته جعلتني ـ رغم أني أرتدي البذلة كاملة وأحمل حقيبتي الثقيلة ـ أركضُ بلا وعي خلف ذلك الذي كشف لي جزءا من مستقبلٍ مظلمٍ كئيبٍ قد أقع فيه أنا شخصيا ، أدركته عند مفارق طرق يقف ينتظر مساحة فارغة بين السيارات المتلاحقة يَعْبُرُ من خلالها الطريق ، استوقفته وأنا ألتقط أنفاسي قائلا :ـ تعال ـ يا رجل ـ إلى أين ؟! ...
ربما تودون الآن أن تعرفوا كيف ساعدتُ ذلك الريفيَّ البسيط ... ( إممممم ) تلك قصة طويلة ، لكن يكفي أن تستمتعوا بمشاهدة إخوته صناديدِ الظلم والنصب والاحتيال ، وهم يجلسون أمامنا في مكتبي الآن متوسلين أن نَصِلَ معهم لتسوية قانونية لموقفهم المعقد بالقضية ، بعدما فتحتُ لهم كل ملفاتهم العفنة ، واقتحمت كل دهاليز شرهم ، واستخدمت كل خبراتي كمحام عريق في مهنتي أُدْرِكُ تماما ثغرات القانون ومن أين تؤكل الكتف ، وأما عن وجه (الغوريلا ) المستقبليّ ، فله عندي يوم أسود من شعرِ جسده ، وإنَّ غدا لناظره لقريب .
ــــــــــــــــــــــتمت
0 التعليقات